الرئيسية / أخبار إقتصادية / أرض مغربية أم جزائرية ؟.. حقيقة ما جرى في «العرجة» بفكيك

أرض مغربية أم جزائرية ؟.. حقيقة ما جرى في «العرجة» بفكيك


هذا ملف موسع من وحي أزمة منطقة “العرجة” التي أحيت جروحا قديمة في جسد الحدود المغربية الجزائرية المثخن. وقد حاولنا أن نتجاوز هذا العارض المؤلم إلى ما هو أوسع في رحاب التاريخ ومآلات الجغرافيا. وسيكتشف القارئ كم هي ظالمة أحكام هذا الجوار الذي بسبب مساندته في محنته فقد المغرب جزءا من ترابه، وأصبح منازعا في جزء آخر من طرف حكام البلد الذي قدمت له الإيالة الشريفة المساندة الأخوية منذ معركة إيسلي إلى معركة الاستقلال عن فرنسا. رحلة ممتعة وإن كانت مؤلمة!

لم يكن يوم 20 فبراير 2020 يوما عاديا على حدود التماس بين المغرب والجزائر، بعدما قام العسكر الجزائري بالنزول بشكل غير عادي ولا مسبوق بمنطقة تدعى «العرجة» توجد على بعد 10 كيلومترات شمال شرق واحة فيكيك. توجه هؤلاء الجنود وعددهم لا يتجاوز الخمسة نحو مجموعة من الفلاحين المغاربة الذين كانوا يستظلون بنخيلهم، فقال زعيمهم بعد عبارة التحية والسلام بلهجته الجزائرية: «واش راكم ديرو هنا؟». كان جواب فلاحي العرجة من دون أي تفكير وباستغراب: «نحن موجودون في أراضينا كما اعتدنا منذ عقود». ساد الصمت لثوان، قبل أن يتدخل كبير الجنود الجزائريين ليخاطب الفلاحين المغاربة بلغة تحمل نوعا من الصرامة: «أنتم موجودون في أراض جزائرية وعليكم أن تخلوها في ظرف ثلاثة أيام». لم يستوعب الفلاحون المغاربة الأمر، إلى درجة أن بعضهم كان يعتقد أن ما يحدث ليس إلا «كاميرا خفية» لقناة جزائرية سيتم بثها في شهر رمضان الذي نستعد لاستقباله. لكن عندما تيقن الجميع أن الأمر جدي ولا يقبل المزاح تدخل واحد من الفلاحين، ليتحدث بدوره بلغة تحمل بعض الصرامة التي يعرف بها أهل الشرق موضحا: «هذه أراضينا التي توارثناها أبا عن جد، كما أننا نملك رسوما ووثائق تثبت ما نقوله، ولا يمكن أن يقنعنا أحد أنها أراض جزائرية». وفي ذات الوقت تدخل فلاح آخر ليتحدث مع العسكريين: «شوفو.. حنا السياسة خاطيانا، وكل ما نعرف أن هذه أراضينا التي لن ينزعها منا أحد». وسط هذا البوليميك، الذي استمر لدقائق فقط، انسحب الجنود الجزائريون، وعادوا أدراجهم من حيث أتوا وسط دهشة الفلاحين المغاربة، تاركين خلفهم مجموعة من علامات الاستفهام والتعجب. وبعد يومين، عاد الجزائريون ثانية، وهذه المرة بشكل أكبر، بعضهم يرتدي لباسا مدنيا وبعضهم لباسا عسكريا، وكان من بين من حضروا جنرال جزائري، عرف الفلاحون رتبته بعدما سمعوا المرافقين له ينادونه بـعبارة «Mon général»، فخاطبهم بلهجته الجزائرية قائلا: «شوفوا يا ناس نتوما راكم فأرض جزائرية ولذلك عليكم أن تخلوا هذه الأراضي». ليستمر الجدال أيضا لبضع دقائق، لكن الجنرال تحدث بلغة أكثر صرامة من سابقيه، ومن خلال ملامح وجهه اتضح أنه لا يمزح، وأن الجزائريين عازمين هذه المرة على تنفيذ وعيدهم. وفي هذه اللحظة، تدخل فلاح مغربي اسمه عبد المالك بوبكري، بحكم أنه أكثر الفلاحين ثقافة وقدرة على الكلام والتفاوض والخطابة، فوقف وجها لوجه مع الجنرال الجزائري، ليحتد النقاش بينهما، غير أن آخر ما قاله الجنرال: «عليكم إخلاء هذه الأراضي بعد ثلاثة أيام»! أخبره عبد المالك بوبكري رفقة من كانوا إلى جانبه من الفلاحين أن الأمر مستحيل، وبعدما جد الجد، طالب المزارعون بمهلة أطول حتى يتمكنوا من نقل ممتلكاتهم وأشجار نخيلهم، وبعدها أخبرهم الجنرال أن المهلة يمكن تمديدها لأربعة أسابيع، مما يعني أن عليهم أن يغادروا أراضيهم التي ظلوا يستغلونها لقرون من الزمن بحلول يوم 18 مارس 2020. وفي ظل هذا اللغط، استغل الفلاح المغربي عبد المالك بوبكري الفرصة ليتحدث مع الجنرال الجزائري بلغة السياسة، غير أن هذا الجنرال أخبره أن سبب المشكل – بحسب زعمه – هو الجانب المغربي الذي لم يخبر فلاحي «العرجة» أن تلك الأراضي الذي يزرعونها هي أراض جزائرية، وأن الجزائر كانت تغض الطرف طيلة هذه العقود من الزمن عن نشاطهم. بعدها تدخل عبد المالك بوبكري ليخاطب الجنرال بقوله: «وأين كنتم طوال هذه السنين؟ أنا أحرث هذه الأراضي التي ورثتها عن والدي لمدة ثلاثين سنة من دون أن تتدخلوا؟». وهذا السؤال هو العصب الأساسي لكل النقاش الدائر حاليا! رحل الجنرال الجزائري ومن معه، تاركين خلفهم مجموعة من الأسئلة الحارقة للفلاحين والمطروحة على الدولة المغربية نفسها، فهؤلاء الفلاحين البسطاء وجدوا أنفسهم في نقاش مع جنرالات وعساكر دولة أخرى وهذا أمر غير معتاد وغير مقبول كذلك في الأعراف الدبلوماسية، فما كان لهؤلاء المزارعين إلا أن يربطوا الاتصال مع السلطات ليشيع الخبر في المدينة، ويصل إلى باشا وعامل الإقليم. ثم تحرك المجتمع المدني، ودخل سكان منطقة فيكيك في احتجاجات تطورت إلى مسيرات ووقفات رمزية أمام الباشوية بشكل يومي، ثم أمام مبنى الدرك الملكي، وبعدها تدخل العامل واجتمع بالمتضررين فأخبرهم أنه يتابع ما يحدث عن قرب لإيجاد حل للمشكل المطروح. وما إن حل يوم 18 مارس الموعود، حتى عمد عامل الإقليم إلى الاستعانة بالمئات من رجال الأمن والدرك والقوات المساعدة، لمنع الفلاحين المغاربة من الذهاب إلى حقولهم، خوفا من الاصطدام بينهم وبين الجنود الجزائريين، بما أن تدبير هذا الملف أكبر بكثير من مفاوضات بين جنود يتزعمهم جنرال وفلاحين متشبثين بأراضيهم التي تحتضن رفات آبائهم وأجدادهم. وفي اليوم ذاته، حل بالفعل عدد كبير من الجنود الجزائريين بأراضي «العرجة» مصحوبين بأسلحتهم، ومرفوقين بفيلق من الصحفيين ليصوروا الوضع هناك، وينقلوا للرأي العام أمورا ليست بالضرورة صحيحة، ليتحول اليوم النقاش والصراع إلى حرب إعلامية هنا وهناك، بينما تدار الأمور بشكل جدي وصارم على مستوى وزارتي الداخلية والخارجية في المغرب والجزائر. خاصة وأن مثل هذا المشكل الواقع اليوم في «العرجة» تكرر أكثر من مرة طيلة العقود الماضية، فليست هذه أول مرة يشتكي فيها فلاحو واحة فيكيك من الاستيلاء على أراضيهم من طرف الجزائريين. تقول الرواية الجزائرية إن «السلطات قامت بإغلاق المنافذ التي كانت تستعملها عصابات الجريمة المنظمة لتهريب المخدرات على مستوى واحة لعروضة بمنطقة بني ونيف بولاية بشار جنوب غربي البلاد على الحدود مع المغرب». والمثير في الأمر أنه تم تغيير اسم «العرجة» واستبداله بـ»لعروضة»، بشكل غير مفهوم. ويوم 17 مارس نشرت وكالة الأنباء الجزائرية بلاغا يقول: «… هذا الإغلاق جاء في إطار المستجدات الإقليمية وتعزيزا لجهود الدولة الجزائرية في تأمين شريطها الحدودي، وبعد الإخلال بكيفية استغلال بعض الأراضي الجزائرية من قبل مواطنين مغاربة في واحة لعروضة». ويتابع البلاغ: «الجزائر قدمت مهلة للفلاحين والمزارعين المغاربة المستغلين للأراضي الجزائرية الواقعة بهذه المنطقة، لإخلاء الأراضي الجزائرية في الآجال التي تم الاتفاق عليها». في الوقت الذي نشرت جرائد جزائرية أخبارا أخرى تربط هذا الرد بعودة العلاقات الدبلوماسية بين الرباط وتل أبيب، وروايات أخرى تروج إلى أن المغرب يهدد الأمن القومي الداخلي واستيهامات أخرى من هذا القبيل. وفي كل الأحوال، فهذه روايات متناقضة ومتضاربة، وتقول مجموعة من المصادر التي تحدثت إليها «الأيام» من قلب فيكيك خلال إنجاز هذا الملف، إن هذه الروايات تحتاج إلى أحمق لتصديقها أو أبله يسلم بصحتها دون أن يعرف خليفاتها.
العرجة.. الحكاية لم تبدأ من هنا !
ما يحدث هذه الأيام في منطقة العرجة بواحة فيكيك ليس الأول من نوعه، فهو يعيد إلى الأذهان حوادث مماثلة عاشها المغاربة ممن يسكنون خط التماس مع الجارة الشرقية، منذ أيام الاستعمار الفرنسي. وهي السلوكات التي تكرست بعد استقلال الجزائر في العام 1962، فبعد سنة واحدة فقط سنشهد حرب الرمال التي وصلت نيرانها إلى فيكيك، وكان المشكل الأساسي مرتبطا بالحدود، ومنذ تلك الفترة ورث سكان المغرب الشرقي عشرات النزاعات الحدودية التي تراوحت سبل تسويتها من التوافقات إلى المواجهات العسكرية. وبحسب العديد من المسؤولين والمهتمين ممن تواصلت معهم «الأيام»، فما تعيشه اليوم منطقة «العرجة» ليس سوى شجرة تخفي الغابة، فمئات الكيلومترات من الأراضي الفاصلة بين البلدين تعرف نزاعات رغم التوصل إلى اتفاق لترسيم الحدود في العام 1972، صادق عليه البرلمان الجزائري في الحين، في الوقت الذي لم يصادق عليه البرلمان المغربي إلا في حدود العام 1989 بعد أربعة أشهر من إعلان تأسيس اتحاد المغرب العربي، بعدما حصل الحسن الثاني على ضمانات من الرئيس الجزائري الشاذلي بن جديد بأن الجار الشرقي سيلتزم بنص الاتفاقية ولن تكون هناك أي مشاكل حدودية بين جارين قررا للتو الاتفاق على تأسيس الاتحاد المغاربي وطي صفحات الخلافات وبداية عهد جديد بعد سنوات من المواجهات المسلحة المباشرة وغير المباشرة في الصحراء وقبلها في حرب الرمال. لكن الإشكال يبقى أن اتفاقية رسم الحدود عام 1972، كما سنكتشف في باقي أجزاء هذا الملف، تحتمل بدورها الكثير من التأويلات، خاصة وأن الترسيم يتم بذكر أسماء قمم الجبال وبعض الوديان وحتى الكثبان الرملية التي لا تستقر في مكان واحد، مما يعني أن جزءا من هذه الحدود الشاسعة يمكن أن يتغير مع الزمن، بما يتوافق أحيانا مع الوضع السياسي للجار الشرقي ومع مزاج المتحكمين في قصر المرادية. لكن اتفاقية العام 1972 لرسم الحدود التي صادق عليها المغرب في 1989 لم تدخل حيز التنفيذ سوى في العام 1992، أي بعد أشهر من تولي محمد بوضياف رئاسة الجزائر خلفا للشاذلي بن جديد، وهو الذي كان في نيته طي جميع الخلافات مع المغرب، من نزاع الحدود إلى نزاع الصحراء، بحكم معرفته الجيدة بالأسباب الجوهرية الحقيقة لخلاف البلدين الشقيقين، ومعرفته الكبيرة للمغرب الذي عاش فيه لعقود من الزمن وصداقته القديمة مع الحسن الثاني، لكن أحلام بوضياف والحسن الثاني لم يكتب لها أن تتحقق بعدما تم اغتيال الرئيس الجزائري واغتيلت معه فكرة التقارب بين جارين متطاحنين.

عن y2news

اترك تعليقاً