الرئيسية / عبد الهادي بوطالب وقضايا الإسلام المعاصر: الاجتهاد والمجتمع الإسلامي المعاصر (11)

عبد الهادي بوطالب وقضايا الإسلام المعاصر: الاجتهاد والمجتمع الإسلامي المعاصر (11)


من بين القضايا التي استأثرت باهتمام الأستاذ الراحل عبد الهادي بوطالب، قضايا الإسلام المعاصر. اهتمام الفقيد بهذا الموضوع، يعود من جهة إلى كونه من خريجي جامعة القرويين ، عالما علامة، ومن جهة أخرى إلى كونه تحمل مسؤولية مدير عام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم في مرحلة احتل فيها النقاش حول ما سمي بالصحوة الإسلامية، بعد الثورة الإيرانية، صدارة الأحداث والاهتمامات السياسية والفكرية في ذلك الوقت، حيث يجدر القول، بأن نفس القضايا مازالت مطروحة إلى اليوم، والتي خاض فيها الأستاذ عبد الهادي بوطالب بالدراسة والتحليل عبر العديد من المقالات والمحاضرات التي نشر البعض منها في كتاب من جزأين، تحت عنوان، “قضايا الإسلام المعاصر”. وهي كتابات مازالت لها راهنيتها.
وقد دعا النبي عليه السلام لعبد الله بن عباس أن يفقهه الله في الدين ويعلمه التأويل، فاستجاب الله دعاء نبيه وشرح الله صدر ابن عباس لتفسير القرآن والتفقه في الدين، وعلمه التأويل بالاجتهاد للتوصل لصائب الفهم.

إن المجتهد إذا أصاب فقد قام بدور النيابة عن الله فيما استنبط من أحكام شرعية بهدي من الله وتوفيقه. “فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام” (سورة الأنعام، الآية 125) إيمانا واعتقادا واجتهادا واستنباطا، “ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا” (سورة الأنعام، الآية 125) كفرا وغواية وضلالا وتحجرا فكريا وتقليدا.

والله هو خالق الفكر الذي أودع فيه ملكة البحث والفهم والاستنتاج والاستنباط، فلا خالق لشئ ولا لأحد سواه : “هو الله الخالق البارئ المصور” (سورة الحشر، الآية 4). “أفمن يخلق كمن لا يخلق” (سورة النحل، الآية 17).

وإن من أعظم ما يميز الإسلام عن سائر الأديان أنه جاء دين تحرير للبشرية، حررها من كل سلطة إلا سلطة الله، وأخضع الأرض لهذه السلطة العليا. فالله أكبر من كل سلطة، ولا سلطة فوق سلطانه. إليه تعنو الوجوه ويذل الأعزاء. وميز الله الإنسان عن سائر المخلوقات وكرمه فأودع فيه الفكر الثاقب والذهن النافذ، ليستعملهما فيما خلقهما الله له مطلقَيْن عن كل حجر وقيد، وإنما في حدود تعاليم الإسلام القيمة، وقيمه الخيرة المقدسة.

ولقد جاء الإسلام بتعاليم تسائل وتجيب، وقرنها بتقبل الفكر لها وإيمان القلب بها حتى وصل اجتهاد بعض العلماء إلى تكفير المقلد. كما حفل القرآن بتمجيد الفكر والعقل والاستنجاد بهما للتدليل على وجود الله والإيمان بانفراده بالخلق والأمر. كما فتح آفاق التفكير واسعة للنظر في ملكوت الله من أرض وسماء وفضاء بحثا عن الحقيقة واكتشافا للمجهول، واهتداءً إلى الأرشد والأنفع. ولم يحفل كتاب سماوي بمثل ما حفل به القرآن الكريم من حث على فك الفكر من عقاله، واستعماله وتنشيطه وحفزه على إثراء المعلومات الحسية والمعنوية، وإخصاب مشارب المعرفة والعلم وانطلاقه للاجتهاد الدؤوب البناء، لتستمر قيم الإسلام مدى الدهر صالحة غضة نقية.

إن صلاح الإسلام لكل زمان ومكان وقدرة علمائه على التواصل إلى معرفة أحكام المستجدات شرعا، لا تضمنها بعد ختم الرسالة وانتهاء الوحي إلا مؤسسة الاجتهاد التي هي مؤسسة تعبدية للمجتهد فيها أجران إن أصاب وأجر إن أخطأ. وهي ضمن استخلاف الله لعبده الإنسان في الأرض ليقوم بالحفاظ عليها وإصلاحها وتطويرها، وتهذيب سلوك المخلوقات الموجودة فوقها، وتربيتهم على المنهج الإسلامي المرتكز على نمط سلوك وقيم يرضى الله عنها ويثيب عليها.
1-مؤسسة الاجتهاد واستمرارها :
وقد ارتأينا بمناسبة شهر رمضان المبارك، أن ننشر على حلقات بعضا من هذه المقالات المنشورة في الكتاب المذكور أو غيره، تعميما للفائدة ومساهمة منا في نشر فكر عبد الهادي بوطالب الذي يعد من رواد الفكر الإسلامي التنويري.
الحلقة (11)
الاجتهاد مؤسسة إلهية إسلامية مستمرة إلى نهاية الدنيا، فرضها الله على القادرين عليها من عباده ليتيح بها إعمال الفكر البشري، لإغناء التشريعات والتنظيمات التي جاءت بها مصادر التشريع الإسلامي التي عُنيت بأصول الأحكام وبعض فروعها، ولمواجهة التطورات المستجدة في كل عصر ومكان، بالإجابة الشرعية عليها باستنباط أحكامها من مصادرها، حتى لا تبقى في التشريع الفقهي ثغرات، وحتى لا تُطرح على المجتمعات المتعاقبة عبر القرون تساؤلات تظل بدون جواب، أو مشاكل تضيق عن الحلول، ليبقى الإسلام بهذا الجهد الفكري المتواصل صالحا لكل زمان ومكان، مشرق الصورة، متصفا بالكمال الذي جاء التسليم به على لسان الحق في آخر ما نزل من القرآن في حجة الوداع : “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا” (سورة المائدة، الأية 3)، وحتى يبقى الدين ما بقي الدهر : “إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون” (سورة الحجر، الآية 9).

وإن عَلم ونَظَر وبَصَر وعَقَل وفكر ومشتقاتها قد بلغت  في القرآن عددا هائلا من الأفعال والأسماء والنعوت مفردات وجمعا، ووردت جميعها في سياق الإشادة بالعقل والفكر وحسن البصيرة، ودقة التبصر في ملكوت السماوات والأرضين، وترويض ملكات الإنسان على الفهم والاستنباط والاستنتاج. ومن ذلك قوله تعالى : “قل سيروا في الأرض فانظروا” (سورة آل عمران، الآية 137)، وقوله تعالى : “كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون” (سورة يونس، الآية 24)، وقوله تعالى : “الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض”، (سورة آل عمران، الآية 91). وقوله تعالى : “وما يعقلها إلا العالمون” (سورة العنكبوت، الآية 43)، وقوله تعالى : “إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون” (سورة الرعد، الآية 4)، وقوله تعالى : “إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون” (سورة الزخرف، الآية 3)، وقوله تعالى : “فاعتبروا يا أولي الأبصار” (سورة النور، الآية 44). وهذه الآية هي إحدى الآيات التي اعتبرها بعض مفسري القرآن إشارة إلى الأخذ بالاجتهاد، فالاعتبار هو قياس الأشياء على نظائرها. وهذه هي قاعدة الاجتهاد الأساسية. واستدلوا بها على تحريم قطع الاجتهاد وإيقاف مؤسسته عن العمل.

2-الرسول مؤسس الاجتهاد :
الاجتهاد والمجتمع الإسلامي المعاصر

رغم الخلاف الذي ثار بين علماء الأصول والتشريع حول وقوع الاجتهاد من الرسول عليه السلام وعدمه، فإن الواقع يشهد بأنه قد اجتهد فيما لم ينزل به عليه وحي من القرآن، ولا أُلهم إياه بالسنة، وذلك لسن القدوة به للمسلمين للأخذ بالاجتهاد واستنباط الأحكام للفروع، وإرجاع الجزئيات إلى قواعدها الكلية. وهذا هو ما عليه جمهور العلماء.

عن y2news

اترك تعليقاً