الرئيسية / أخبار إقتصادية / “التبونيات”

“التبونيات”


.
بقلم: طالع السعود الأطلسي
لا يستحق الشعب الجزائري كل هذه البلايا التي حاقت به. المشاق اليومية لتوفير مؤونة التغذية الضرورية للعيش… الانسداد المزمن لشرايين الدورة الديمقراطية… تلك الطغمة العسكرية الكامنة في ثنايا النظام السياسي… المستحوذ على مقدرات الجزائر، والمتمترس في مسالك مستقبلها… والمولد لكل أعطابها وجراحاتها ومعضلاتها.
أما أن النظام، هناك، عسكري المبنى والمعنى، فهذا، ما يعطي النظام نفسه الأدلة عليه… بالواضح والمرموز….رئيس أركان الجيش السعيد شرنقريحة، وقد نحا نحو سلفه القايد صالح، ألح في “الأمر” باحترام مؤسسات الدولة “وعلى رأسها الجيش”، في توجيهاته السياسية التي يعلنها للجميع، من داخل ثكنات المناطق العسكرية… وهي تشمل رأيه في كل حوادث وقضايا الحياة العامة… يكون فيها “أفصح” من الرئيس المنتدب، “بإسمه”، لرئاسة الجمهورية… وفيها يكون مرتاحا، آمرا وناهيا… كما لا يفعل أي رئيس أركان الجيش في الدول المحترمة وفي جيوشها المحترمة… وكان سلفه القايد صالح، سباقا للتمركز في آليات النظام، خلال العهدة الرابعة، “البيضاء”، للرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة… وبذلك “الانقضاض” على النظام تمكن من إدارة الحياة السياسية الجزائرية، بالمباشر وبالواضح، حتى نصب عبد المجيد تبون “رئيسا” في قصر المرادية… و”ترأس” هو إدارة “باقي” أطراف البلاد، ببرها وجوها وببحرها… ومات، بعد أن مرن رئيس الأركان الحالي على مواصلة نهجه وصون “الاحترام الواجب للجيش” داخل النظام السياسي، وفي كل ما تشمله محكوميته من الدولة والمجتمع…
سفير فرنسي سابق في الجزائر، لمدة سبع سنوات، على مرحلتين، من 2008 إلى 2020، السيد كزافيي درينكور، نشر، مارس الماضي، كتابا، عنوانه “اللغز الجزائري” هو حصيلة “يوميات سفارة في الجزائر”… عنوان الكتاب هو وحده دال على خلاصة معاينات السفير في البلد… بلد “لغز” أو “فزورة”… ومفتاح فك اللغز ذالك هو معاينة السفير لـ”صعود الجيش الجزائري، بقوة، والذي منذ 1962، حتى وهو حاضر، بقي دائما “خلف الستار”، ولكن في 2019، اختار المرور إلى مقدمة المشهد”… وخاصة النظام هذه، يلاحظ السفير الفرنسي، بادية للجزائريين بل اعتادوا على التمييز داخله بين المكونين، المدني والعسكري… بالإشارة إلى “المرادية”، حيث مقر الرئيس، و”زيرالدة” حيث مقر قيادة أركان الجيش… وقد بلغت الهيمنة العسكرية على النظام حد أن الرئيس الحالي تحدث، ولأول مرة، يسمعها السفير الفرنسي، تحدث عن “نظام سياسي-عسكري”، في سبتمبر 2021… وكان السفير قد سمع من رئيس وزراء جزائري بأنه “كان محدود الصلاحية في قراراته، وأن ممثلا لجهاز المخابرات العسكرية كان يتابع معه، بل يدلي برأيه، في كل مقترحات تعييناته”…
كل هذا، ليس جديدا علينا… وإن تضمن الكتاب، إضافات هامة حول الوضع الجزائري، من خلال يوميات السفير الفرنسي… إضاءات تؤكد ما يعرفه الجميع –كما قال السفير نفسه- داخل الجزائر وخارجها… الجديد اليوم هو أن النظام الجزائري، وبالهيمنة العسكرية عليه، تخترقه”نوبة” حادة في اختلالاته البنيوية… نوبة بادية في “تقلص العضلات” المدنية في هيكله… تضخم الاختلال داخله بانتفاخ الورم العسكري فيه… الجنرالات اليوم مكشوفون في قيادة النظام… هم في مواجهة مباشرة مع الشعب الجزائري ومع المجتمع الدولي… الحراك الشعبي يحشرهم في عزلة اجتماعية يتزايد ضيقها مع كل قرار جديد لنظامهم… و”يتعبون” المجتمع الدولي وهو يحاول انتشالهم من شرودهم عن تحصين مصلحة الجزائر، وسط ارتجاجات الأوضاع الإقليمية والعالمية حولها… النظام يواجه في آن واحد آثار خصاص الأسواق من المواد الغذائية الأساسية، وهو عاجز على توفير السكر والحليب ومواد غذائية أخرى للمواطن… و”يؤرقه” التخلي الدولي عن بضاعته الانفصالية وبالتبعية التخلي عنه… ولأن “طغمة” الجنرالات واغلة على النظام، وبتغطية مدنية… تبقي “عصابتها” في موقع الاستفادة المريحة، تحت “الظل”… وجدت نفسها اليوم أمام نضوب المورد المدني فيها… جراء عزلتها الاجتماعية… “تتساهل” في انتقاء أعوانها المدنيين إلى مستوى ما تحت المعدل… وهكذا انتدبت “لرئاسة الجزائر”… الرئيس الحالي وهو الغمر… وزيادة في النكاية بالجزائر…مهذار… ومنتج غزير “لتبونيات” مسلية… في “المونولوج” الإعلامي الذي تطعمه فأدمنه، من نوع “سمره” مع صحافته، السبت وفي قضايا ساخنة، أجج جمراتها من حيث “حاول” إخمادها… وفي لقاءاته الرسمية، كما فعل مع الوزير الأمريكي للخارجية، تلك الثرثرة الخارجة عن المطلوب في السياسة وفي مجرد الكياسة… “الرئيس” وهو يمارس تكليفاته الرئاسية، يحاول إثبات أنه “لا يعرف النحو، فقط، بل يتقن الزيادة فيه…”… وهكذا يعمق نفور المجتمع من “الدولة ويعطل ما بقي من جسور بينهما”… وبتلك “الزيادات” في السياسة، يقدم لأطراف علاقات الجزائر الخارجية، ما يضحكها، ما يحيرها، وما ينفرها منه… واحدة من تبونياته أغرت وزير الخارجية الاسبانية بأن يرد على الرئيس لما انتقد موقف الحكومة الاسبانية المنحاز لمغربية الصحراء (عبر تثمينها لمقترح الحكم الذاتي، الذي بادر به الملك حلا واقعيا عادلا ودائما للمنازعة الجزائرية حول الصحراء المغربية)… واصفا كلامه بأنه “جدل عقيم”… قصف ديبلوماسي دقيق بكلمتين، استدعى ردا طويلا وبلا طائل من عون خدمة في الرئاسة الجزائرية شارد… والجدل العقيم هو، أيضا، ما قارب به الوضع في ليبيا، مناصرا طرفا فيها ضد طرف… وهو “الرئيس” الذي يتغنى “برعايته” لحل الأزمة الليبية والمصالحة بين كل أطرافها، ولبلاده معها تماس جغرافي طويل وحساس… فلا ندري هل “يذهب” إلى ليبيا ليطلب “صلحا” أم ليؤجج نيرانها… (تذكروا مع أوبريت الشاعر أحمد شوقي)… ولا يمل ولا يفتر حماسه وهو يغذي رصيد “تبونياته”، يوميا، بما وسعه خياله وقلة حيلته السياسية… والكثير من الحقد المشحون به ضد المغرب.
والحقيقة، هي أن النظام الجزائري، بقضه وقضيضه، سقيم… و… عقيم… وما “الرئيس” إلا “صوت سيده” فيه… بنباهة أقل وفهلوة أكثر… والحال أن أوضاع الجزائر وأوضاع المنطقة حواليها وتأثيرات أوضاع العالم عليها… الحال أن ذلك يستوجب قيادة سياسية للجزائر متحسسة لمصالح شعبها وعارفة بمتطلبات اجتياز -وحتى ردم- فجوات التاريخ والاندماج في مساره الواقعي المتحرك، بقدر عال من جرأة الفكر وشجاعة الإرادة… ولا خيار أمام النظام غير أن يبادر ليجدد بنياته… والأرجح أنه لن يستطيع لفرامل ذاتية فيه… أو يستمر عبئا على شعبه، ويضيق عليه عزلته الداخلية بتوسيع فئات الغاضبين عليه، من الشعب ومن أوليغارشيا الأعمال ومن داخل رافعته العسكرية، والتي اتسعت فيها قيادة الصف الثاني والمتطلعة إلى الحلول في المواقع الأولى… وقد طال انتظارها… وبدأت تسمع “همهمات” غضبها وقلقها في الثكنات… وذلك ما حرك رئيس الأركان، لتفتيش المناطق العسكرية من جديد متحدثا عن مؤامرات داخلية، يحركها الخارج، مهددا بقمعها.
والنظام في وضعه الحالي، بات، بسبب تكلس أوصاله السياسية، عن التبدل، عائقا، جيواستراتيجيا في شمال إفريقيا، أمام مد التحول فيها لمحاصرة الإرهاب وتجفيف منابعه، (النظام لا يساعد على معالجة الأوضاع الملتهبة في منطقة الساحل والصحراء)… عائق يبطئ ويعقد التفاعل الإفريقي الأوروبي بخاصة في المجالات الاقتصادية… بما يضر بالطرفين ويعمق من هامشيته بينهما… فرامل ذاتية فيه، تعيق النظام الجزائري للتخلص من “أدوات” حكمه المتهالكة ونفض “عقله” من شبكة “الموجهات” المتقادمة فيه… وحدث بعد حدث يتجاوزه مجرى التاريخ، داخله وخارجه، ويتوغل في عزلاته… وفي ظرفية عالمية تشق أحداثها مسارات لتحولات كبرى، باصطفافات دولية جديدة وأسبقيات استراتيجية نوعية… تحولات تستدعي من الدول جاهزية قوية للمضي فيها وللتموقع فيها… ويبدو أن النظام الجزائري، ساه ولاه عن هبوب أعاصير التاريخ، ولا يملك أمام تحديات إدارة البلاد غير تلك “التبونيات” التي هي مجرد فقاعات وأضغاث أوهام… للأسف، كل ما يؤشر عليه، هذا النظام، وكل ما يعبر عنه وباسمه، لا يسمح بالتفاؤل في قدرته على قيادة الجزائر نحو ما تستحقه، ونحو ما يطمح له شعبها، ونحو ما يتمناه لها المغاربة من تقدم واستقرار وازدهار.

عن y2news

اترك تعليقاً